انهم يكيدون كيدا فمهل الكافرين امهلهم
بســم الله الـرحمــن الرحيــم
هذه السورة أقسم الله عز وجل فيها بأكبر مخلوقاته , وأعظم آياته , وكل ما أقسم الله به فالقسم دلالة على لفت الإنتباه لعظمة هذا المخلوق ومكانته عند خالقه .
وآيات السورة تذكير الإنسان بحقيقته , ومآله .
معنى آياتها :
( والسماء والطارق ) قسم من الله عز وجل بالسماء وما فيها من كواكب , وسمى النجم طارقا لأنه يظهر في الليل ويختفي بالنهار . وهو اسم جنس لكل نجم .
( وما أدراك ما الطارق ) نفي العلم عن الإنسان بمعرفة حقيقة الطارق , مع معرفة ما هو .
( النجم الثاقب ) هذا تفسير لحقيقة الطارق , فهو مضيء يثقب ضوءه السموات والفضاء, وترجم به الشياطين .
( إن كل نفس لما عليها حافظ ) هذا جواب القسم , ومعناه أن كل نفس خلقها الله عليها حافظ يحفظ أعمالها ثم توافى بها يوم القيامة , ويدل على ذلك قوله تعالى : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18] , وعليها في الحياة حافظ من الله يحفظها من كل شر , ويدل عليه قوله تعالى : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) [ الرعد : 11] .
( فلينظر الإنسان مم خلق ) دعوة من الله لكل إنسان أن يتأمل في خلقه , كيف كانت بدايته , ولا ينكر أحد ذلك أبدا أنه خلق من ماء مهين , بعد الخلق الأول من طين , حيث قال تعالى : ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) [ السجدة : 7-8] .
( خلق من ماء دافق ) أي : ماء المني الذي يخرج من الرجل ومن المرأة , فبإذن الله يتكون منه الجنين .
( يخرج من بين الصلب والترائب ) أي : هذا الماء الدافق يخرج من بين صلب وترائب الرجل .
( إنه على رجعه لقادر ) أي : الله الذي أوجد الإنسان من هذا الماء قادر على أن يعيده مرة أخرى بالبعث , بل الإعادة أهون عليه , كما قال تعالى : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) [ الروم : 27] .
( يوم تبلى السرائر ) أي : الإعادة ستكون في يوم القيامة , وفي ذلك اليوم يظهر كل ما كان مخبوءا في الدنيا في الصدور من أسرار , ونوايا , وخير وشر . فتصبح جميع الأمور علانية , ويكون الحساب من رب العباد .
( فما له من قوة ولا ناصر ) أي : في تلك اللحظة لن يجد الإنسان قوة في نفسه تحميه مما ينتظره , ولا ناصر ومعين من سوى نفسه يدفع عنه .
( والسماء ذات الرجع ) قسم من الله عز وجل بالسماء التي تمطر , وتعاود المطر مرة بعد مرة .
( والأرض ذات الصدع ) أي : وقسم أيضا بالأرض التي تتصدع تربتها , فيظهر النبات, فيأكل منه الإنسان والحيوان .
( إنه لقول فصل ) أي : قسم الله تعالى بالسماء والأرض على أن القرآن حق , لا شك فيه,فصل بين الحق والباطل , والهدى والضلال .
( وما هو بالهزل ) أي : واضح لا غموض فيه , صدق لا كذب فيه , جد لا هزل فيه .
( إنهم يكيدون كيدا ) أي : إن المكذبين بالقرآن يدبرون المكائد , ويمكرون بخبث ودهاء ليردوا الحق الذي جاء به القرآن ,
ويصدون الناس عن قبوله .
( وأكيد كيدا ) أي : وعيد من الله عز وجل بأنه سيقابل كيدهم بإظهار الحق , وقمع الباطل , وما كيد الكافرين إلا في ضلال .
( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) أي : لا تستعجل مصير هؤلاء المكذبين الكافرين , وسترى ما سيحل بهم من عذاب وخزي جزاء ما كانوا يفعلون .
ثمرات التدبر في آيات السورة :
- ( والسماء والطارق ) قسم من الله تعالى بآيات من آياته الكونية , وتدل على قدرة الله وعظمته , وفي ذلك تنبيه للخلق بأن يتأملوا ويتدبروا في هذه الآية ليزدادوا إيمانا ويقينا .
- ( وما أدراك ما الطارق ) دعوة للإنسان ليستشعر أنه مهما بلغت قوته وقدرته , فهو ضعيف أمام صورة واحدة فقط من قدرة الله تعالى .
- ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) نحمد الله عز وجل على هذه النعمة , أن جعل لنا من يحفظنا ويحمينا . وعند تفسيرها بمن يحفظون أعمالنا لنحاسب عليها يوم القيامة لا بد أن تكون عندنا رقابة ذاتية تدفعنا لفعل الصالحات وتجنب السيئات . وهذا من تمام عدله سبحانه , مما يشعرنا بالاطمئنان أن لا نظلم ولا يضيع لنا حقا .
- عندما نقابل بين تدبر قدرة الله وعظمته في خلق السماء والطارق , وبين قوله : ( فلينظر الإنسان مم خلق ) نجد فيها دعوة للإنسان أن يشاهد قدرة الله تعالى وليدرك ضعفه وعجزه , ثم يفكر ويدرك بأنه لا غنى له عن ربه .
- ( خلق من ماء دافق ) كم هي المسافة العقلية بين ماء دافق وجسد مكون من لحم وعظم وعصب وعقل ومشاعر وأحاسيس ولسان ينطق ؟!
والماء الدافق به ملايين الحيوانات المنوية , لكن واحد فقط هو الذي يلقح البويضة , إذن هذا الواحد اختاره سبحانه من بين الملايين ليكون إنسانا ! فاستشعر تكريم الله لي ,الذي نبه عليه في قوله تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) [ الإسراء : 70] , وبعد ذلك فأي شكر وأي عبادة لله تؤدي حق الله عز وجل في هذه النعمة وغيرها ؟!
- ( النجم الثاقب ) يكشف بنوره ما تخفيه الظلمة , وما تحتها من أسرار كونية . و ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) تبين حقيقة علم الله تعالى المطلق , و ( يوم تبلى السرائر ) في ذلك اليوم يظهر الله ما كان في القلوب ولم يطلع عليه أحد .
هذه ثلاثة أمور كلها تدل على قدرة الله المطلقة , وبعدها أيعجزه أن يرجعه بعد الموت , وهل ينكر عقل واعي أن القادر على ما سبق قادر على البعث ؟!
- ( فما له من قوة ولا ناصر ) كل عاقل لا يغتر ولا ينخدع بمن حوله , ولا ما معه من مال , ولا ما عنده من حسب ولا نسب ولا جاه .
- في قوله ( خلق من ماء دافق ) و ( والسماء ذات الرجع) و ( ويخرج من بين الصلب والترائب ) و ( والأرض ذات الصدع ) دليل على وحدة الحياة , ثبات نظامها , فالأرحام تخرج الخلق , والسماء تخرج الماء , والأرض تخرج النبات , وذلك دليل قاطع على وحدانية موجدها .
- ( إنهم يكيدون كيدا ) كيد من مجموعة , و ( وأكيد كيدا) كيد من فرد صمد , وذلك دليل على أنها معركة خاسرة محققة الخسارة للجماعة , مهما بلغت قوتها أمام وحدانية الله .
فصورة المواجهة أنها بين طرفين , لكنها في حقيقتها طرف واحد , فمن ذا الذي لا يملك حتى نفسه ثم يكيد , كيف يكيد من لا يملك الإبقاء على حياته , فتسلب منه رغما عنه ؟!
- ( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) جاءت بصيغة الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم تكريما من الله عز وجل .
ألا نتعلم من ذلك عدم العجلة في شؤون حياتنا ؟
ألا نتعلم الخوف من مغبة هذه العاقبة ؟
اللهم لا تجعل لسفيه ولا فاجر علينا سبيلا , واحفظنا بما تحفظ به عبادك الصالحين
.